للأستاذ / جلال الدين داود - من كتاب أماندا و الأبنوس
السبيل يقبع على ناصية البيت ..
معْلَماً و متكئاً ..
معلماً للسائلين عن العنوان ..
متكئاً للونسة السريعة ...
يصطاد دونما عناء و في صمتٍ الدعوات الصالحات لأهله ..
الصدأ يأكل أطراف كوز الماء المعلق في السبيل بسلسلة طويلة ..
كَرمٌ ممتد إلى حدٍ معلوم بحيث تُوقِف السلسلة سرقة الكوز إن إستغل أحدهم هذا الكرم المبهول في الشارع .
تنتشر عدة ثقوب أسفله .. تضبط سرعة الشارب و تستحثه على الإسراع بينما تتناثر قطرات الماء المنهمرة من الثقوب على الأرجل المغبرة و الأحذية المهترءة .
كوز السبيل يشبه ( الخير ) صاحب السبيل ..
فالخير كريم (لامِنْ مدفق) مثله مثل الأزيار عندما تملؤها (زينب) على دفعات بالجردل من الحنفية .
تقول عنه زينب أن ( إيدو مقدودة ) فلا يفرق بين الكرم و إستغلال الناس له .
و (الخير) مكبل كالكوز إلى ( زينب ) .. و لكن بسلسلة من نوع آخر .. مقيد ببُخْل (زينب ) فلا يتعدى كرمه حوش أسرتها .
تلوك الألسن إشاعة مفادها أن (الخير) مربوط ( بعمل ) جلبتْه ( زينب ) من مشعوذ يقطن أطراف قريتها البعيدة ..
زينب تقول أن الناس يستمرءون الكرم فيتمادون في الإستزادة ..
( الخير) ذو معدنٍ أصيل .. لا يصدأ كما الكوز ..
يهب ما يلقاه يمنة و يسرة .. في غفلة من ( زينب ) .. تماماً كأزيار السبيل .. يتناقص ماؤها لتعود تمتليء من جديد ..
الأزيار تعج أطرافها الخارجية بطحالب تشترك مع نسمات الصيف العابرة في تبريد الماء .. ليعود إلى حرارته الأولى بفعل نفحات الهجير .
تعج نفس ( الخير) بصفاتٍ تؤكد أنه إسم على مسمى ..
و الكلب الراقد أسفل الزير يحسده المارة على مرقده البارد .
السبيل به ثلاث أزيار .. فالرابع أصابه حجر في مقتل بعد أن قذف ( ود جبرالله ) حجراً ليصيب به (ودالخير) .. فأخطأ الهدف ..
( القِحِف) يتناثر هنا و هناك و لكنه لم يبرح ساحة السبيل و كأنه لا يزال يتشبث بالماء و الظل و صوت الكوز يكسر حاجز سطح الماء ليل نهار ..
( التذكارات ) تملأ جدران السبيل .. مكتوبة بالفحم و الطباشير ..
سقف السبيل ( الزنكي ) يحتجز على جوانبه عدة أكياس نايلون ضلتْ طريقها .. و علب فارغة .. و ( كورة شُرَّاب ) .. و أشياء فقدتْ معالمها بفعل الشمس و الغبار .
( الخير ) يطرد الكلب الراقد تحت الأزيار .. و يفتح أغطيتها للتأكد من إمتلاءها .
يقف الكلب غير بعيد .. فهو يعرف أن وقفته في الهجير لن تطول ..
يقف ( سيد الكارو ) .. يكرع كوزين على عجل .. و يدلق ماءاً على عنق حصانه الهزيل ..
يتابعه الكلب أملاً في الرجوع إلى مرقده البارد مرة أخرى ..
تقف مجموعة من طلاب المدارس .. يشربون و يلهون بالماء ..
يقذفونه بوابل من الحجارة ..
تقف إمرأتان تتجاذبان أطراف الحديث .. تتكيء إحداهما على حافة السبيل .. بينما تغرف الأخرى الماء بالكوز لتغسل وجهها ..
ثم تملؤه و تعطيه للأخرى التي تبصق ( سفتها ) و تتمضمض و تبتلع جرعة عجلى ..
ليعود الكلب ليغفو بعين واحدة ..
و يوماً بعد يوم .. تتكرر نفس المشاهد دونما حدوث شيء يكسر رتابة الأيام و إيقاعها الموزون على نفس الشخوص و الأشياء ..
و تزداد الطحالب سماكة ..
و الكلب ممدد لا يقلقه صوت أو حجر ..
و الأزيار تقلص عددها ..
بقي زير واحد ...
و ما عاد الكوز مربوطاً ..
ثم إختفى من على غطاء الزير الوحيد ..
بعد أن إنقطعت سلسلته ..
ثم يتناقص الماء رويداً رويداً في الزير ..
شغَلَتْ أمور أخرى ( زينب ) عن ملء الأزيار ..
بدأتْ الطحالب في الموت من أعلى الزير .. لتتخذ لوناً أخضرأً باهتاً .. لتتساقط متناثرة على جسد الكلب الضامر الذي ما عاد يرى إلا لِماماً ..
ما عاد المكان بارداً ...
الريح تصفر على فم الزير الفارغ ...
تقف عصفورة تروم قطرة ماء .. ثم تنطلق صوب الفضاء العريض ..
يتمدد الكلب رامياً رأسه إلى الخلف ..
طار ( زنك ) السقف بفعل عاصفة عاتية ليلة الأمس ..
فزع الكلب من زخات المطر تنقر على جسده النحيل فإنطلق يبحث عن مأوى آخر ..
و كنخلةٍ توقفت عن طرْح الثمر .. وقف السبيل كبقايا آثار يحكي عن أيام مضتْ ..
وقف أهل الحى يودعون بنظرات صامتة ( الخير ) و ( زينب ) ..
لملموا حاجياتهم ...
و ألقوا نظرة أخيرة على جدران البيت ..
ثم على السبيل الذي شهد ردْحاً من حياتهما .. و نجاح تجارته .. و إسرافه الذي قاومته ( زينب ) دون طائل .. ثم إفلاسه ..
تؤنبه بنظرات عتاب على إسرافه الذي لم تستطع كبح جماحه كثيراً ..
بمساعدة جيرانه .. رفع الزير المتبقي على عربة الكارو كذكرى لأيامه الخوالي .. و أوصاهم بالسبيل خيراً ..
بينما بقايا سلسلة الكوز تتأرجح كأنها تودعهما ..