ما هي تلك اللغة التي كان موسى يخاطب بها الناس ؟
لم يرد ذكر في التوراة للفظ عبرية بمعني اللغة.ففي سفر إشعياء حيث تبشر مدونة التوراة بالاستيلاء على مصر وإخضاعها ليهوذا، تقول : "في ذلك اليوم يكون في أرض مصر خمس مدن تتكلم بلغة كنعان" (إشعياء 19 : 18). والمقصود بطبيعة الحال لغة بني إسرائيل الذين سينتصرون، وتلك اللغة لم يكن لها علاقة باللغة العبرية.
ولما حاصر قائد عسكر الأشوريين أورشليم، بعث إليه الملك حزقيا خدامه فخاطبهم القائد، ثم أجابوه : "خاطب عبيدك بالآرامية لأننا نفهمها ولا تخاطبنا باليهودية في مسامع الشعب الذين على السور" (إشعياء 36 : 11)(22).
يتضح من السياق التاريخي الذي أوردناه، أن البلاغ الأصلي للتوراة كان موجهاً إلى فرعون وإلى بني إسرائيل، فإذا كان القوم قد دوَّنوا البلاغ مباشرة عن لسان موسى، فإن التوثيق الأصلي للتوراة ــ أي المدونة الأولى التي لا وجود لها بين أيدي الإنسانية المعاصرة ـ لا يمكن أن يكون بالحرف العبري الذي نعرفه حالياً.
لقد عاش موسى في مصر أربعين سنة تربى خلالها في بلاط فرعون فتكون لغته الأم هي المصرية. ويمكن أن يكون ملمّاً بلغة أخرى إلى جانب المصرية كعادة الملوك في تعليم ذويهم عدة لغات، فربما كان ملمّاً بلغة خاصة بالعبرانيين أو الإسرائيليين ــ ولم يكن بنو إسرائيل آنذاك سوى قلة ضمن شعوب العبرانيين ــ فإذا كان الإسرائيليون يحتفظون بلغة لأنفسهم إلى جانب المصرية التي هي لغة المحل الذي سكنوه لعدة قرون، فإن هذه اللغة الخاصة لا يمكن أن تكون هي اللغة العبرية المعروفة لدينا، فهذه لم تتبلور إلا بعد وفاة موسى بحوالي أربعة قرون. إذاً فهناك احتمال غالب أن تكون لغة البلاغ الأصلي للتوراة هي المصرية دون غيرها، باعتبارها اللغة المشتركة بين جميع سكان مصر. أو يحتمل أن تكون لغة التوراة الأصلية هي لغة هؤلاء الذين هاجروا من فلسطين إلى مصر وهم أخلاط، فتأثروا بعادات مصر واكتسبوا لغتها، ثم رجعوا إلى فلسطين يحملون معهم موروثهم الثقافي والفكري الجديد، فكانت لغتهم على أقل تقدير خليطاً من المصرية والكنعانية الحيثية، فتكون هي اللغة التي دونوا بها التوراة نقلاً عن موسى. وإذا كان موسى قد عاش أربعين سنة في مصر، ثم رحل إلى مَدْيَن وهي قبيلة عربية ـ أو على الأقل ليست إسرائيلية ـ ليعيش فيها أربعين سنة أخرى، فإنه بالتأكيد كان قد ألم بلغة هذه القبيلة قبل عودته إلى مصر رسولاً. ولكن يبقى السؤال : ما حاجة سكان مصر من فراعنة وإسرائيليين لأن يخاطبهم موسى بلغة غير اللغة المصرية التي هي لغة المحل ؟
ونخلص من ذلك إلى القول بأن الوثيقة الأولى للتوراة، التي تحمل البلاغ أصلاً خالصاً كما بلغه موسى، مفقودة في عصرنا الحاضر ولا تتوفر الإنسانية المعاصرة عليها.
وما يقال عن لغة موسى يقال عن لغة هارون أخيه، إذ أنه من سلالة الإسرائيليين الذين سكنوا مصر لأكثر من أربعمائة عام، وقد عاش طيلة حياته في مصر، وكان معاوناً لأخيه موسى، عليهما الصلاة والسلام.
ولعل نصوص شمره الغنية تلقي ضوءاً على علاقة وطيدة بين لغة العبرانيين والكنعانيين الذين دَوَّنُوا تراثهم بلغة جديدة، هي خليط من المصرية والكنعانية، أخذوا يستغنون فيها شيئاً فشيئاً عن الدخيل المصري الذي تسرب إلى ألسنتهم، حتى غلب المعجم الحيثي على ما عداه. ولذلك فالكتابات التي اكتشفت في فينيقيا وسوريا، وهي وثائق أكثر عدداً من تلك التي وجدت في فلسطين، كانت تمثل نموذجاً من لغة قديمة تطورت مع الزمان لتُكَوِّنَ بعد قرون اللغة العبرية. وبفضل هذه الاكتشافات زال كثير من الغموض عن معجم ونحو وأسلوب مدونة العهد العتيق بلغتها التي وصلتنا، بل زالت الظلال الضبابية التي غلفت الشخصيات والأحداث والوقائع والحضارات التي تأثر بها مدونو العهد العتيق، وهم غافلون عن ترتيب العهود التاريخية والمواقع الجغرافية(23).
للمزيد (
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]