اختلف أهل العلم في الموزون في ذلك اليوم على أقوال :
الأول : أن الذي يوزن في ذلك اليوم الأعمال نفسها ، وأنها تجسم فتوضع في الميزان، ويدل لذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيح قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كلمتان حبيبتان إلى الرحمن ، خفيفتان على اللسان ، ثقيلتان في الميزان : سبحان الله وبحمده ، سبحان الله العظيم " (1) .
وقد دلت نصوص كثيرة على أن الأعمال تأتي في يوم القيامة في صورة الله أعلم بها ، فمن ذلك مجيء القرآن شافعاً لأصحابه في يوم القيامة ، وأن البقرة وآل عمران تأتيان كأنهما غمامتان أو غيابتان ، أو فرقان من طير صواف تحاجّان عن أصحابهما . ففي صحيح مسلم عن أبي أمامة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " اقرؤوا القرآن ، فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه . اقرؤوا الزاهروين : البقرة وسورة آل عمران ، فإنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان ، أو غيابتان (2) ، أو فرقان (3) من طير صواف تحاجان عن أصحابهما " (4) .
وروى مسلم أيضاً عن النواس بن سمعان قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " يؤتى بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به ، تقدمه سورة البقرة وآل عمران ، كأنهما غمامتان ، أو ظلتان بينهما شرق (5) ، أو كأنهما فرقان من طير صواف تحاجان عن صاحبهما " (6) .
وهذا القول رجَّحه ابن حجر العسقلاني ونصره ، فقال : " والصحيح أن الأعمال هي التي توزن ، وقد أخرج أبو داود والترمذي ، وصححه ابن حبان عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ما يوضع في الميزان يوم القيامة أثقل من حسن الخلق ".
الثاني : أن الذي يوزن هو العامل نفسه ، فقد دلَّت النصوص على أن العباد يوزنون في يوم القيامة ، فيثقلون في الميزان أو يخفون بمقدار إيمانهم ، لا بضخامة أجسامهم ، وكثرة ما عليهم من لحم ودهن ، ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة ، وقال : اقرؤوا : ( فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا ) [ الكهف : 105 ] " (7) .
ويؤتى بالرجل النحيف الضعيف دقيق الساقين فإذا به يزن الجبال ، روى أحمد في مسنده ، عن زر بن حبيش عن ابن مسعود ، أنه كان رقيق الساقين ، فجعلت الريح تلقيه، فضحك القوم منه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مم تضحكون ؟ " قالوا : يا نبي الله من رقة ساقيه " .
قال : " والذي نفسي بيده لهما أثقل في الميزان من أحد " .
قال ابن كثير : تفرد به أحمد وإسناده جيد قوي (.8.) .
وما أحسن ما قال الشاعر :
ترى الرجل النحيف فتزدريه ××× وفي أثوابه أسد هرير
ويعجبك الطرير فتبتليه ××× فيخلف ظنك الرجل الطرير
الثالث : أن الذي يوزن إنما هو صحائف الأعمال . فقد روى الترمذي في ((سننه)) عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله سيخلص رجلاً من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة ، فينشر له تسعة وتسعين سجلاً ، كل سجل مثل مد البصر ، ثم يقول : أتنكر من هذا شيئاًَ ؟ أظلمك كتبتي الحافظون ؟ فيقول : لا يا رب ، فيقول : ألك عذر ؟ فيقول : لا يا رب .
فيقول الله تعالى : بلى ، إن لك عندنا حسنة ، فإنه لا ظلم اليوم ، فتخرج بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، فيقول : احضر وزنك فيقول : يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات ؟ فيقول : فإنك لا تظلم ، فتوضع السجلات في كفة ، والبطاقة في كفة ، فطاشت السجلات ، وثقلت البطاقة ، ولا يثقل مع اسم الله شيء " (9) .
وقد مال القرطبي إلى هذا القول ، فقال : " والصحيح أن الموازين تثقل بالكتب فيها الأعمال مكتوبة ، وبها تخف ، .. قال ابن عمر : توزن صحائف الأعمال ، وإذا ثبت هذا فالصحف أجسام ، فيجعل الله تعالى رجحان إحدى الكفتين على الأخرى دليلاً على كثرة أعماله بإدخاله الجنة أو النار " (10) .
وقال السافريني : " والحق أن الموزون صحائف الأعمال ، وصححه ابن عبد البر والقرطبي وغيرهما ، وصوبه الشيخ مرعي في (بهجته) ، وذهب إليه جمهور من المفسرين ، وحكاه ابن عطية عن أبي المعالي .. " (11) .
ولعل الحق أن الذي يوزن هو العامل وعمله وصحف أعماله ، فقد دلت النصوص التي سقناها على أن كل واحد من هذه الثلاثة يوزن ، ولم تنف النصوص المثبتة لوزن الواحد منها أن غيره لا يوزن ، فيكون مقتضى الجمع بين النصوص إثبات الوزن للثلاثة المذكورة جميعها .
وهذا ما رجحه الشيخ حافظ الحكمي فقال : " والذي استظهر من النصوص – والله أعلم – أن العامل وعمله وصحيفة عمله – كل ذلك يوزن ، لأن الأحاديث التي في بيان القرآن ، قد وردت بكل ذلك ، ولا منافاة بينها ، ويدل كذلك ما رواه أحمد – رحمه الله تعالى – عن عبد الله بن عمرو في قصة صاحب البطاقة بلفظ : قال : قال رسول الله : " توضع الموازين يوم القيامة ، فيؤتى بالرجل ، فيوضع في كفة ، ويوضع ما أحصى عليه ، فيمايل به الميزان . قال : فيبعث به إلى النار .
قال : فإذا أدبر ، إذا صائح من عند الرحمن – عز وجل – يقول : لا تعجلوا ، فإنه قد بقي له ، فيؤتى ببطاقة فيها لا إله إلا الله ، فتوضع مع الرجل في كفة ، حتى يميل به الميزان " .
فهذا يدل على أن العبد يوضع هو وحسناته وصحيفتها في كفة وسيئاته مع صحيفتها في الكفة الأخرى ، وهذا غاية الجمع بين ما تفرق ذكره في سائر أحاديث الوزن ، ولله الحمد والمنة " (12) .
--------------------------------
(1) صحيح البخاري ، كتاب التوحيد ، باب (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة) ، فتح الباري : (13/537)
(2) الغيابة : أقل كثافة من الغمامة ، وأقرب إلى رأس صحبها .
(3) فرقان : طائفتان .
(4) مشكاة المصابيح : (1/656) ورقم الحديث : 2120 .
(5) شرق ، أي : ضوء ونور .
(6) مشكاة المصابيح : (1/656) . ورقم الحديث : 2121 .
(7) صحيح البخاري ، كتاب التفسير ، تفسير سورة الكهف ، فتح الباري : (8/426) .
.8.) النهاية لابن كثير : (2/29) .
(9) جامع الأصول : (10/459) ، ورقمه : 7981 ، قال محقق الجامع : إسناده صحيح ، ورواه ابن ماجة ، وابن حبان في صحيحه ، والحاكم والبيهقي وغيرهم .
(10) تذكرة القرطبي : 313 .
(11) لوامع الأنوار البهية : (2/187) .
(12) معارج القبول : (2/272) .