حرصت أن تكون فلاشاتي ورواياتي من واقع الحقيقة , حقيقة أكون عشتها بنفسي أو عاصرتها وعايشتها , أو عكسها لي من عاشها ... فليس هناك أبلغ من الحقيقة ,, وقد قالها حكيمنا الشيخ فرح ود تكتوك رحمه الله : إذا ما مرقك الصدق , الكضب ما بيمرقك ..
عايشت سفر عطبرة - الخرطوم بالقطار وقد كان سفرا" شاقا" , قطعناه ( بالمخصوص ) و ( بكريمة ) و( بالوحدة ) وأخيرا" ظهر النجم المصري ( السيماف ) وكانت المشقة لدرجة أنه جربنا المبيت في محطة (عطبرة ) نفسها ( أي قبل أن نتحرك ) ..فتجد نفسك أكلت ( زوادتك ) قبل حركتك .. وكذلك جربنا المبيت في (الدامر ) وغيرها من المحطات .. (الرويان )و (جبل جاري ) .
وكان ظهور المحطات الكبيرة لها أبلغ الأثر في نفوسنا , فنترقب ( شندي ) و ( الدامر ) و ( الجيلي ) , وذلك من أجل التزود بالسندوتشات والموز ( أبو نقطة ) وبعض الركاب يستبشرون بها للإغتسال وإزالة علامات السفر من ( غبار ) ليبدو منظرهم مقبول وقد يبدأون مشروع ونسة وتعارف , يأملون فيها أن تنتهي فيها بعقد قران ..أو علي الأقل تعرف لها عنوان بسؤالك ( بتقري وين ) .. والبعض الآخر يستبشر لينزل ليجمع صلاتي الظهر و العصر أو المغرب و العشاء ..
وبعضهم يشعر أنها فرصة للدخول لحمامات المحطة ذات المياه المتوفرة أو ( نقر ) أبواب جيران المحطة لإستئذانهم وذلك إذا ما تعذر وجود مياه أو كان الصف للحمامات طويلا" ..
أما البعض ( الساكن ) وممكن أن نسميه ( اللابد ) أو ( القانص ) والذي لا ينزل من القطار كان يعتبرها فرصة لإخراج ( الزوادة ) والتلذذ بها في حالة خلو الممر أو ( القمرة ) من الركاب .. فبعد أن يأخذهم ضمان تام ببعدهم عن نظراتهم وأنوفهم , وإذا ما رجعتك الظروف فجأة لأي سبب ( لإحضار فرشة الأسنان ) أو ( إحضار شال ) أو ( جاكت البرد ) فتجد ( المتخلفون ) , صامدون , يمزمزون , يقهقهون , يستمتعون , وحيدون , لغيابك مستغلون ..
لذا أذكر أن الترقب للمحطات الكبيرة كان له طعم خاص , فكل يبحث عن ( ليلاه ) ,, وكان لمحطة ( الجيلي ) نكهة إضافية , فهي إضافة" لإحساس البعض بأنها آخر محطة رئيسية ,, وأن الخرطوم علي الأبواب بل وعلي مرمي حجر , فهي مربوطة بها ب ( الزلط ) فتري علاماتها من تكسي و بيبسي ..
أما البعض الآخر فيري بأنه يمكنه النزول فيها وإستغلال حافلة الجيلي - الخرطوم لكسب الوقت وتقليل علامات السفر ..
وكانت دعابتي عادة" خلال رحلاتي للفرحين بالوصول لمحطة الجيلي وهم قابعون بالقطار : خلاص فرحتو بالجيلي لأنو القطار سيسرع بعد وصوله (الزلط )!!
أحيانا" يمكن لعقل الإنسان الباطني أن يصور له شيئا" , فيتقبل العقل الظاهري المعلومة بل ويتقبلها علي أساس أنها حقيقة فيسلم بها .. وتتجند كل الجوارح والأحاسيس لهذه الحقيقة وتتعامل معها علي أساس أنها واقع , وتصدقها , ولذا يحدث العجب ..وإليكم عجبي بالقطار ..
فكلكم يعرف ماذا يعني الوصول وأنت تركب القطار .. فالإحساس معروف ومعظمكم عاشه ..فالإحساس أنك وصلت العاصمة ووصلت مياهها الإقليمية برؤيتك حافلات بحري - الجيلي وأن ماتبقي ينسيك عذاب السفر , خاصة" إذا ماكان تحركك من عطبرة لأكثر من 24 ساعة ..
خلال نهارية وقد لفحتنا السموم ونحن في الدرجة الثالثة , تجد صورة نفسك في شخص جارك أو الشخص اللي أمامك , نعم هكذا إن كنت تريد أن تري صورتك , فأنظر لجارك ..وفي وسط الزحام يركب أصحاب الشاي ذوي ( الكفتيرات الكبيرة ) وقد إستحضرتني نغمته
الشاي ده من الهندي ...
ومويتو بس من عندي ..
يرميني ليه !!! ؟؟
وأثناء تجوال الباعة طل ذلكم الرجل مهرولا" في الممر وهو ممسك بطرف ( عراقيهو ) ويشده ليعضه بطرف فمه قائلا" : أدوني حاجة لي الله
.
وهنا تنفس الصعداء أحد الركاب : الحمد لله وصلنا الجيلي ..
وكان هناك رجل آخر , يبدو أن له خبرة سفر و ( صلبات طويلة بمحطات القطار ) , فكان منه أن أخرج رأسه عبر نافذة القطار وقال بثقة : دي ما الجيلي ..
فكانت الصاعقة علي الرجل الأول , فقال متحديا" : دي الجيلي .. وده أدوني حاجة ل الله ..
فرد الآخر بنفس الثبات والثقة و ( لا أدري هل هو من المناطق تلك أم رجل عركه السفر والقطر ) . فأردف : دي ما الجيلي ..وهنا تحرك القطار من المحطة المختلف عليها ..
ولم يجدا منا نحن البقية نفيا" أو إثباتا" , فكلنا نتمني أن تكون هي الجيلي ونحن مع راي الأول لكن بالتمني
ولم يجد المتجادلان نفيا" أو تأكيدا" من ( أدوني حاجة ل الله ) إذ أنه كان مشغولا" بتوزيع المساويك وتحصيل النقود . إضافة إلي أن عقله - شفاه الله - ينقصه شئ من التركيز لدرجة أننا سمعنا أن والده لطالما زجره بعدم العودة لسؤال الناس ويضيف والده - حسب الراوي - أن هذا الولد غني جدا" ولديه الكثير من الأموال ..ونحن لا ندري إذا ما كان الوالد غنيا" أو أن هذا الإبن قد جمع الكثير من المال من محطة القطار..
سواء" كانت تلك المعلومة أو الأخري هي الصحيحة ,, فالمعلوم عنه أنه رمز من رموز( الجيلي ) وكفي , وأنه كريم كرم مبالغ فيه , إذ أنه يرمي بالمساويك ولا ينتظر أن تعطيه شيئا" ,, فتراه يرمي المساويك هنا ولكن النقود يعطيها له شخص آخر ..إضافة" إلي أنني لم أسمع منه جملة" إلا وهي مقرونة ب ( إسم الجلالة ) وجملته المعهودة : ( أدوني حاجة ل الله ).. وشخصي وجميع الركاب متعاطفون معه .. فنظرتنا له محط تقدير , بل لا تراودك النظرة للسائل الذي قد يكون مخادعا".. إضافة" إلي أنه رمز الوصول للخرطوم ..
وغير ذات بعيد , وصل القطار للمحطة التي تلي المحطة التي ركب منها ( أدوني حاجة ل الله ) ,و فإذا بها هي ( الجيلي ) .. وهنا تدخل صاحب الرأي الواثق من نفسه والذي قال أن المحطة السابقة ليست بالجيلي فقال بكل ثقة : أهي دي الجيلي ..
فرد المخالف : أيه والله
وهنا إستدرك جمعنا أن ( أدوني حاجة ل الله ) قد ركب من المحطة السابقة للجيلي , ليكسب أكبر قدر من الزمن ليشحد , فيكون عنده الزمن في الرويان زائدا" الزمن بين المحطتين زائدا" الزمن الذي يمكثه القطار بمحطة الجيلي مسقط رأسه والذي كان أصلا" ( موطن شحدته ) في السابق ...
فمن علمه هذا !!!
وأضيف أن الرجل بني علي شئ وهو ظهور ( رمز الجيلي ) وبني عليه أفكاره وشعوره وأحلامه .. فكم منا من بات حلمه في السراب وبدأ ينسج الأمل خيطا" خيطا" لتحقيقه ويرجو واقعه ....
وإلي محطة قطار أخري