( المرأة وموظف الضرائب )

( المرأة وموظف الضرائب )

وأنا بموقف البصات أترقب لأختار رحلة مناسبة تعبر بي ال 328 كيلومتر كما أخبرني بها الصديق العزيز قوقل والذي لم يبخل علي دوما" بل ولم يتأخر علي أبدا" , لتعبر بي من العاصمة لمدينتي الحبيبة عطبرة شمالا" . سرحت لأختيار رحلة تناسبني في الوعد وفي .........
تقدمت قليلا" لأستظل بظل إحدي مكاتب الرحلات , لكن المكتب ليس عاليا" في مايكفي في مبناه , إضافة" إلي كثرة المارة , لأجد نفسي نصفي في الظل ونصفي في الشمس , فوجدتها فرصة لأتمعن في ظلي , بل في نصف ظلي والذي كنت كثيرا" ما أنا مشغول عنه وشارد الفكر والذهن عنه . فكلانا مشتاقان لبعضنا البعض , فلم أتذكر متي آخر مرة شاهدت ظلي حتي في منتصف الظهيرة والشمس في كبد السماء أو بعده بقليل أو في إحدي ليالي 13 , 14 أو 15 المقمرة .. لم أتذكر متي تمعنت ظلي . فتجدني إما أجاهد النفس والنفس ( الأولي بسكون الفاء والثانية بفتحها ) لألحق مكتب حكومي للختم أو لخزينة تقفل الساعة 12 . أو أحسب حساباتي هل يتناسب ما تحويه المحفظة وما توافد علي من بنود للصرف .

أجد نفسي ولطول زمان أنها فرصة لأري ظلي , كيف كان هو وكيف إستمر طيلة مساحة عمري وكيف هو الحال عليه الآن . فتمعن المرآة والصورة الحقيقية والصورة المنعكسة والبعد البؤري , هذا لا يناسب وضعي ومشغولياتي , لذا فالفرصة للتمعن في الظل , وبرمزية خاطب الظل شاعر الراحل مصطفي سيد أحمد رحمه الله , الشاعر يحيي فضل الله قائلا"( يا ضلنا )

وبينما أنا في سرحتي تلك , يمر المارة ليحجبوه عني , يختفي ظلي ويظهر ثانية" , فكأنما هي دنانير ملاعب جنة والتي أنشدها المتنبئ :

فسِرْتُ وَقَدْ حَجَبنَ الشَّمْسِ عني وَجِئْنَ منَ الضّيَاءِ بمَا كَفَاني
وَألْقَى الشّرْقُ مِنْهَا في ثِيَابي دَنَانِيراً تَفِرّ مِنَ البَنَانِ

لكن دنانيري كانت تختلف عن دنانير الشاعر المتنبئ , فقد رأيتها في ظلي , لكنها ساقتني لدنانير شبس و ثمن التذكرة , فكان هدفي الحصول علي رحلة مناسبة الزمن والدنانير . وبينما أنا مشغول بدنانيري والتي دائما" ما أقول لكم أنني مشغول عن ظلي , أري ظلي ولكني أري فيه دنانير المسافة . وبينما أنا كذلك فقد تزاحم شخصان أمام ظلي ليحجبا دنانيره عني , فلا أري إلا ظليهما يحجب ظلي وصوتاهما يخرقان أذني , فرفعت رأسي لأري من يزاحمني في دنانيري , فإذا بي أمام إمرأة مكتنزة الوجة بيضاء ذات صحة جيدة بالقياس المحلي وليس بالقياس العالمي , أو بمؤشر كتلة الجسم , شكل مألوف لدي ولطالما رأيته , ليست بتلك الطاعنة في السن , كي تناسب مهنتها ولا بتلك الهزيلة لتضفي عليها ملامح تناسب ذلك , بل بالصحة الجيدة والتي يمكن أن أقول أنها فطرت وتفطر يوميا"بفتة ولحم وشربت البيبسي , وهذا يقودني لمقالة عادل إمام في مسرحية الود سيد الشغال وقد شرح له خاله ( كبير الطباخين ) أن يكون برنامج الأسرة الكريمة اليومي من الصبح تجهيز الفطور , فصاح : دول بيفطروا كل يوم ؟!! هذه المرأة ليست كبيرة لكنني يمكن أن أقول في أواخر الشباب و حليفها و مجادلها أمام ظلي شاب نحيل أسمر يضع أمامة باكوهات من السجائر يبيعها وقد ربط ولاعة مع الطبلية حتي لا تهاجر مع من إشتري سيجارة , بقصد أو بغير قصد .

علت أصواتهما فعرفت أني أمام مشادة , تمعنت في المرأة فإذا بي أعرف أنها من مرتادي هذا الموقف , بل يمكن أن تكون من رموزه .. تحمل في يدها ورقة تقريبا" نص ال A4 وتمعنت فيها فإذا هي مغطأة بالبلاستيك , بل مغلفة تغليف جيد , ولقد عرفتها وعرفت مهنتها , ألم أقل لكم لا فرصة في بلدي لتري ظلك أويراك ظلك .. فسمعت العراك لتبدأ هي : ده محلي إنت ماعارف والا شنو ؟ فأجاب : أنا جئت من قبلك . فأردفت المرأة : يا زول ده محلي وكل الناس عارفة .. ( أيقنت أنها محقة لأن وجهها مألوف لدي وخاصة أني كثير العبور بهذا المكان طيلة زمن الدراسة الجامعية , وهو غير مألوف لدي وبالأخص في موقف البصات هذا ) .. لكنني سرعان ما تساءلت , كيف يمكن لشخص أن يحجز مساحة خالية فقط ليقف فيها , ويعتبرها ملك له , حتي من غير أوراق ثبوتية أو شهادة بحث . هو يقف ليبيع وهي تقف لتزاول مهنتها .. سرحت في ما تحمله وفي مهنتها لأجد أن الورقة عبارة عن وصفة طبية مغلفة بالبلاستيك للمحافظة عليها . هي إذن تمارس التسول منذ تلكم السنين , حتي قبل كثير من الشركات وقبل كثير من البصات بل وقبل كثير من السواقين , بل أصبحت رمز ومعلم من معالم موقف البصات

نظرت إليها وأنا في حيرة من أمري , حاولت أن أرمق وصفة الطبيب لأري إسمه وهل هو حي أم مات , ولأري تاريخ تلك الوصفة , هل من زمن وأنا في الإبتدائية . لكنها أشاحت بها عني ورفعتها في وجه أحد المارة لتلحق به ولا تريد ضياع الفرصة وفي تحول 360 درجة من المشادة مع صاحب السجائر إلي نبرة صوت عذب تستدر بها عطف المسئول , فرد المسئول : الله يدينا ويديك .

فرجعت لصاحبي في وجه متنمر وعدواني وشرس لتواصل الجدال . وأنا لا أدري ما هو سر هذا المكان الخالي والذي فقط أمام إحدي السفريات والتي ليس هو بالعامر بزبائنه ولا بالمريشين أصحاب محافظ النقود المملؤة , خاصة وأن شخصي واقف أمامها .

تدخل شخصي في فض النزاع , فوجهت سؤالي لشخصها : إنت هنا ليك أكثر من 30 سنة وتتسولين هنا . صاح ؟. وأضفت لها ناصحا" : إنت أحسن ما تثبتي في حتة واحدة , لأنو لو ثبتي في حتة واحدة حا يجوك ناس الضرائب ويطالبوك بالضريبة , وحيعملو ليك ملف ضريبي .

فما كانت منها إلا وضحكت ضحكة كبيرة شعرت أنها قد إمتصت غضبها , بل وحسمت النزاع بينهما ويبدو أنها إقتنعت برؤية شخصي فذهبت ملوحة بروشتتها , ونظرت لصاحبي والذي شعر بأنه تم تسجيل المكان بإسمه وخرج من المعركة منتصرا" , ونظرت لشخصي فلم أري ظلي , بل لأري كم الساعة ومتي تكون أول رحلة وأيها سعرها قد ناسب جيبي , لأخرج من المنطقة وقد جنبت المتسولة موظف الضرائب .

لكن سؤالي لنفسي والذي أحسب أنني أخاطب الأسطورة ( جحا ) , هل فعلا" لو مر عليها موظف الضرائب , هل كان سيطلبها الضريبة وبأثر رجعي طيلة ال 30 سنة ؟

هل هي فعلا" نفدت بجلدها بعد أن صدقت كلامي ؟

المعني في جوف شبس و جوف المتسولة وجوف موظف الضرائب , بل في جوفكم أيضا

مافي شئ مستبعد في السودان ... براحه بياخدو ضرائبهم بأثر رجعي .. و نظام الضرائب و الزكاة عندنا بصراحة يقول لصاحب الطبلية و المرأة تلك ، أنتظروا دوركم في صفوف الزكاة مع الفقراء بعد أن يشبع الأغنياء من ضرائبكم .